قصة لهاروكي موراكامي
ترجمة: جهان سمرقند
كل القصص التي رويتموها الليلة تبدو واقعة ضمن فئتين، فهناك فئة حيث تجد عالم الأحياء من جهة، و
عالم الأموات من جهة أخرى، و بعض القوى التي تسمح بالعبور بين الجهتين، و يشمل هذا
الأشباح و ما شابههم. أما الفئة الثانية فتتضمن القدرات الخارقة، الهواجس، و
القدرة على التنبؤ بالمستقبل. كل قصصكم تنتمي إلى واحدة من الفئتين.
في الواقع، تجاربكم تندرج ضمن واحدة منهما. ما أعنيه، أن الناس
الذين يرون الأشباح يرون فقط الأشباح و لا هواجس لديهم إطلاقا. و الذين تتملكهم
الهواجس لا يرون الأشباح. لا أدري لما، لكن على ما يبدو أنها نزعة فردية إلى واحدة
منهما، هذا انطباعي على الأقل.
هناك بالتأكيد من لا ينتمون إلى أي فئة، و على سبيل
المثال أنا. فعندما بلغت ثلاثين سنة و نيف لم أكن قد رأيت شبحا يوما في حياتي، و
لم تتملكني أية هواجس و لا رؤى. حدث مرة أن
كنت في مصعد مع زوجين من الأصدقاء و قد أقسموا أنهم قد رأوا شبحا معنا، لكنني لم
أرى شيئا. و ادعوا أنها كانت امرأة ببدلة رمادية تقف تماما بقربي، لكن لم تكن هناك
أي امرأة، على الأقل بقدر ما يمكنني تصديق ذلك. كان ثلاثتنا فقط في المصعد، أنا لا
امزح، و لم يكن هذين الصديقين من النوع الذي يخطط للقيام بمقلب لي. كان الأمر
برمته غريبا، لكن تبقى حقيقة أنني لا زلت لم أرى شبحا على الإطلاق.
لكن كانت هناك مرة – فقط مرة واحدة- مررت فيها بتجربة
أرعبتني و أفقدتني صوابي. حدث هذا قبل عشر
سنوات، و لم أخبر به أحدا قط. كنت خائفا حتى من الحديث عن الأمر. أحسست أنني لو
فعلت فإن الأمر سيتكرر ثانية، و لذا لم أُثر الموضوع. لكن الليلة تحدّث كل واحد
منكم عن تجربته الخاصة، و بصفتي المضيف لا يمكن أن أسميها ليلة دون أن أشارك فيها
بقصة من عندي. لذا قررت أن أدخل في
الموضوع مباشرة و أخبركم قصتي. ها هي إذن:
تخرجت من الثانوية العامة في نهاية 1960، حينما بلغت
الحركة الطلابية أوجها للتو. و كنت جزء من جيل الهيبيين، و رفضت الذهاب إلى الكلية،
و بدلا عن ذلك، جلت جميع أنحاء اليابان أمتهن الحرف. كنت مقتنعا أن هذه هي أكثر طريقة صائبة للعيش.
يافع و متهور، هكذا بإمكانكم أن تنعتوني. عندما أعيد النظر إلى تلك المرحلة من
حياتي، على الرغم من كل شيء، أعتقد أنني حظيت بحياة ممتعة وقتها. و سواء كان الخيار صائبا أم لا، فإنه لو
أتيحت لي العودة للماضي مرة أخرى، فأنا متأكد من أنني سأعيش بنفس الطريقة مرة أخرى.
في خريف السنة الثانية من التجوال عبر البلاد، حصلت على
عمل لشهرين كحارس ليلي في مدرسة إعدادية. كان هذا في مدرسة ببلدة صغيرة في محافظة
نيجاتا. كنت قد أُنهكت من العمل طيلة الصيف، و أردت أخذ الأمور ببساطة لفترة. أن
تكون حارسا ليليا ليس بالأمر المعقد، فقد كنت أنام خلال النهار في مكتب البواب، و
في الليل كل ما كان عليّ فعله هو القيام بجولتين حول المدرسة للتأكد من أن كل شيء
بخير، أما باقي الوقت فقد كنت استمع للتسجيلات في غرفة الموسيقى، اقرأ الكتب في
المكتبة، و ألعب كرة السلة لوحدي في قاعة الرياضة. أن تبقى وحيدا طوال الليل في
مدرسة لم يكن حقا بالأمر السيئ. هل كنت خائفا؟ إطلاقا. فعندما تكون في الثامنة عشر
أو التاسعة عشر من العمر لا شيء يرعبك.
لا أتصور أن هناك منكم من عمل يوما كحارس ليلي، لذا أظن أنه عليّ
أن أشرح طبيعة العمل و واجباته. يُفترض أن تقوم بجولتين كل ليلة، واحدة على الساعة
التاسعة ليلا و الأخرى على الثالثة فجرا، هذا هو البرنامج. كانت المدرسة بناءا
جديدا من ثلاث طوابق، من ثمانية عشر إلى عشرين حجرة دراسية،و لم تكن بالمدرسة
الكبيرة كباقي المدارس. بالإضافة إلى الحجرات هناك
قاعة الموسيقى، و حجرة التدبير المنزلي، أستوديو للفنون، مكتب الموظفين، و مكتب
المدير، بالإضافة إلى كافيتريا منفصلة، مسبح، صالة رياضة، و قاعة محاضرات. كانت مهمتي أن أقوم بمراقبة سريعة لكل هذا.
أثناء القيام بجولاتي، كنت أتّبع قائمة تَحَقُّق مكوّنة من
عشرين نقطة، حيث أضع علامة "تمّ" أمام كل نقطة أنتهي من التحقق
منها: مكتب الموظفين تمّ ، مخبر العلوم تم... أظن أنه كان بإمكاني البقاء
في السرير في غرفة البواب، أين أنام ، و أضع علامات التحقق على القائمة دون تكبد
عناء القيام بالجولة. لكنني لم أكن من ذلك النوع العشوائي من الشباب. لم تكن
الجولة تستغرق وقتا طويلا، ضف إلى ذلك، إذا ما سطا أحدهم على المكان أثناء نومي،
فأنا أول من سيتعرض للهجوم.
على كل حال، كنت هناك على التاسعة و النصف كل ليلة، أقوم
بجولاتي،أحمل المصباح في يدي اليسرى، و في
يمناي سيف كيندو خشبي. مارست الكيندو في الثانوية
و أحسست بالثقة في قدرتي على التصدي لأي كان، و إذا كان الذي يهاجمني مجرد
هاو، حتى و لو كان يحمل سيفا حقيقيا، فإن هذا لن يخيفني. لا تنسوا أنني كنت شابا
آنذاك، أما إن حدث أمر كهذا الآن، فإنني سأفر كالجبان.
على أي حال، حدث هذا في ليلة عاصفة في بداية أكتوبر، في
الواقع يكون الجو رطبا نوعا ما في هذا الوقت من السنة. كان سرب من البعوض يحوم في
الجوار ذاك المساء، و أتذكر أنني قمت بحرق قرصين مبيدين للحشرات لإبقائه بعيدا. كانت
الريح عاتية، و كانت بوابة المسبح مكسورة ما جعل الريح تصفقها ذهابا و إيابا. فكرت
في إصلاحها، لكن الظلام كان حالكا، لذا ظلت تصفق بقوة طوال الليل.
مرت جولة التاسعة و النصف بخير، و تم التحقق من كل
النقاط العشرين على القائمة بشكل دقيق. كانت كل الأبواب مغلقة، و كل شيء في مكانه.
لا شيء غير عادي. فعدت إلى غرفة البواب، و ضبطت منبهي على الثالثة، و غرقت في
النوم بسرعة.
عندما رن المنبه على الثالثة، ، استيقظت و شعور غريب
الذي كان يراودني. لا يمكنني شرح الأمر، لكني شعرت أني مختلف. لم أشعر بأنني أنهض، بل كأن هناك شيء ما يكبت
رغبتي في النهوض من الفراش، لاسيما أنني من النوع الذي يقفز مباشرة من فراشه، لذا
لم استطع فهم الأمر. كان عليّ إجبار نفسي على النهوض و الاستعداد للقيام بجولتي.
كانت بوابة المسبح لا تزال تواصل إيقاع ضربها، لكنه الآن مختلف عما سبق. فكرت في
أن هناك شيء غريب يحدث بالتأكيد، و ترددت في الذهاب. لكن أقنعت نفسي أنه عليّ
القيام بعملي، مهما حدث. ذلك أن المرء إن تهرّب من القيام بواجبه مرة، فإنه سيتهرب
مرارا، و لم أشأ أن أقع في أمر كهذا. لذا حملت مصباحي و السيف الخشبي و انطلقت.
كانت ليلة غريبة تماما. كان صرير الريح يزداد مع مرور
الليل، و الهواء يتشبع أكثر بالرطوبة. بدأت الحكة تسري في جسدي و لم أستطع التركيز. قررت أن أبدأ بصالة الرياضة و قاعة المحاضرات و
المسبح. كان كل ما تحققت منه على ما يرام. و كانت بوابة المسبح تهتز تحت وقع الريح
كشخص مجنون يهز رأسه حينا و يومئ به حينا آخر، بشكل عشوائي. أولا إيماءتين: نعم،
نعم ثم لا، لا، لا .. أعلم أن هذا التشبيه غريب، لكن هكذا بدا لي الأمر حينها.
كان الوضع عاديا داخل مبنى المدرسة. تحققت من الأمكنة و
سجلت ذلك على قائمتي، لا شيء خارج المألوف يحدث، رغم الشعور الغريب الذي يراودني.
مرتاحا قفلت راجعا إلى غرفة البواب. كان آخر مكان في قائمتي هو غرفة المرجل
المحاذية للكافيتريا في الجانب الشرقي للمبنى، و المقابل لغرفة البواب، ما يعني
أنه عليّ أن أمشي على طول الرواق بالطابق الأول في طريق عودتي. كان الظلام دامسا.،
ففي الليالي التي لا يحجب فيها القمر، يكون الرواق مضاءً بعض الشيء، أما إن حُجب القمر
فلن تستطيع رؤية شيء.
كان عليّ أن أسلط ضوء المصباح أمامي لأرى طريقي. في تلك الليلة الخاصة، لم يكن الإعصار ببعيد،
لذا كان القمر محجوبا. من وقت إلى آخر ، يتسلل نوره من بين السحب، لكن سرعان ما يغرق
المكان في العتمة من جديد. كنت أمشي في الرواق أسرع من المعتاد، و كان أسفل حذائي
الرياضي المطاطي يحدث صريرا إذ يحتك بالأرضية المشمعة. كان المشمع بلون أخضر كسرير
مضبب بالطحالب، يمكنني حتى الآن استحضار صورته. كان مدخل المدرسة في المنتصف أسفل
الرواق، و عندما مررت به فكرت، ما هذا ال ـــــ؟ خلت أنني رأيت شيئا في الظلام.
فبدأت أتصبب عرقا، أحكمت قبضتي على السيف الخشبي، و استدرت ناحية ما رأيت، و سلّطت
ضوء المصباح على الحائط المقابل لرفوف تخزين الأحذية.
و هناك كنت أنا، بعبارة أخرى لقد
كانت مرآة، و لم يكن إلا انعكاس صورتي فيها. لم تكن موجودة في الليلة سابقة، لابد
أنهم قاموا بتثبيتها في النهار. لقد كنت مذهولا يا رجل. لقد كانت مرآة طويلة،
بالطول الطبيعي للإنسان. فارتحت لأن الأمر كان مجرد انعكاس لصورتي على المرآة، و
شعرت قليلا بالغباء من كوني تفاجأت من هذا. إذن هذا كل ما في الأمر ، قلت في نفسي.
يا له من غباءǃ. وضعت مصباحي أرضا، و أخذت
سيجارة من جيبي، و أشعلتها. نظرت إلى نفسي
في المرآة و أنا أسحب نفسا من سيجارة، لاح ضوء خافت من الخارج عبر النافذة وصولا
إلى المرآة، و كانت بوابة المسبح من خلفي تهتز على وقع الريح.
بعد سحب بضع أنفاس من السيجارة، لاحظت فجأة شيئا غريبا،
و هو أن الصورة المنعكسة على المرآة لم تكن لي. ظاهريا تبدو مثلي تماما، لكنها لم
تكن أنا بكل تأكيد. كلا، لم تكن انعكاسا،
بل كانت أنا، لكنها أنا آخر. أنا آخر ما كان يجب أن يكون إطلاقا. لا أدري كيف أعبر
عن الأمر، لكن من الصعب شرح ما أحسسته حينها.
الأمر الوحيد الذي فهمته هو أن هذا الشخص يكرهني. كان
بداخله كره يشبه جبلا من الجليد يطفو على بحر مظلم. ذلك النوع من الكره الذي ليس
بإمكان أحد أن يخفف منه إطلاقا.
وقفت هناك لفترة، مندهشا. انزلقت سيجارتي من بين أصابعي
و سقطت على الأرض، و كذلك سقطت السيجارة التي في المرآة. كنا واقفين هناك، نحدّق
في بعضنا. أحسست أنني كنت مقيّد اليدين و القدمين و لم استطع الحراك.
و أخيرا تحرّكت يده، و لامست أنامل يده اليمنى ذقنه، ثم
كحشرة، زحفت ببطء على وجهه. أدركت فجأة أنني كنت أقوم بالشيء نفسه، وكأني كنت أنا
انعكاسا لما في المرآة و الذي كان يحاول أن يسيطر عليّ .
مستجمعا ما تبقى لي من قوة صرخت و انقطع الوثاق الذي كان
يبقيني متسمّرا في المكان. رفعت سيف
الكيندو و هويت به على المرآة بكل ما أوتيت من قوة،و سمعت صوت الزجاج يتهاوى لكن
لم انظر إلى ورائي و أنا أهرع إلى غرفتي. و بمجرد أن دخلتها، أسرعت إلى غلق الباب
و وثبت تحت الأغطية. كنت قلقا من السيجارة التي ألقيتها على الأرض، لكن كان من
المستحيل أن أعود إلى هناك. كانت الريح تهدر طوال الوقت، و ظلت بوابة المسبح تحدث
الجلبة حتى الفجر. نعم، نعم، لا، نعم ، لا، لا، لا..
أنا متأكد من أنكم قد خمّنتم مسبقا نهاية قصتي.
لم يكن هناك مرآة على الإطلاق.
عند طلوع الشمس، كان الإعصار قد مر. توقفت الريح و جاء يوم
مشمس. ذهبت إلى المدخل، و كان عقب
السيجارة الذي قذفته هناك، و كذلك سيفي الخشبي، لكن لا وجود لمرآة، و لم تكن هناك أبدا
أية مرآة.
ما رأيته لم يكن شبحا. كان ببساطة " أنا". لا
يمكن أن أنسى أبدا الرعب الذي عشته ليلتها، و كلما تذكرت الأمر، تراودني دائما فكرة أن أكثر ما يرعب في هذا
العالم هي ذواتنا. ما رأيكم؟
ربما قد لاحظتم أنه لا يوجد في بيتي مرآة واحدة. لم يكن
تعلم الحلاقة دون مرآة بالأمر السهل، صدقوني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمها إلى الإنجليزية :فيليب غابريال
هذه القصة من اروع ما قرأت لهاروكي تحياتي لك ايتها المترجمة
RépondreSupprimerرائعة جدا
RépondreSupprimerألف شكر على الترجمة
RépondreSupprimerأعجبتني حقا، أنتظر منك ترجمات أخرى لهاروكي موراكامي
RépondreSupprimer